الملك ورئيس الدير

الأسئلة الثلاثة:

   عاش مرّة في بلاد الإنكليز ملك اسمه "حنّا". كان هذا الملك كريهًا فظّ الأخلاق قاسيًا على رعيّته، فلم يفكّر قطّ بشعبه، الموكول إليه الاهتمام بشؤونه ومصالحه، ولم تعرف أرض الإنكليز في تاريخها ملكًا أسوأ منه. وكان في مدينة "كنتربري" أسقف طاعن في السنّ غنيّ يعيش في بيت فخم أو بالأحرى في قصر يسمّى ديرًا، فكان صاحبه معاصرًا للملك "حنّا" ويحيا فيه حياة الأثرياء المترفين الكرماء، ففي كلّ يوم كان مئة رجل يتناولون طعام الغداء على مائدته السخيّة، يخدمهم ويعنى براحتهم وتكريمهم، بينهم خمسون فارسًا بطلًا يرتدون بدلات ثمينة مزيّنة بسلاسل من ذهب.

   طرقت أخبار عيشة البذخ والترف التي يحياها أسقف الدير مسمع الملك "حنّا "، وعزم على وضع حدّ لها وحرمان الأسقف من ذلك التصرّف، فأرسل إليه رجلًا مسنًّا ليأتيه به ويتحدّث إليه في الأمر، فلمّا حضر قال له الملك:

- كيف حالك الآن يا سيد الدير الجليل؟ قد بلغ مسمعي أنّك تعيش في ديرك عيشةً تفوق في فخامتها عيشتي، وقد أخذني العجب من جرأتك على مثل هذا التصرّف! ألا تدري أنّه لا ينبغي على أحد في المملكة أن يحيا حياة شبيهة بحياة الملك؟ إنّي آمرك بأن تحجم عن مثل هذا التصرّف، وألّا تعود إليه!

فقال الرئيس:

- عفوًا يا سيّدي ومولاي، إنّ ما أصرفه في منزلي على الأضياف هو من مالي الخاصّ، فالرجاء ألّا تحمل عملي على محمل الشرّ وتسيء بي الظنّ، إذ إنّي أولم الولائم لأصحابي، وأكرّم الفرسان العائشين معي، لأجعل حياتهم طافحة بالحبور.

أردف الملك قائلًا:

- أسيء الظنّ بك! وكيف لا أسيء الظنّ؟! إنّ جميع ما في هذه البلاد الواسعة هو ملك لي، وحقّ من حقوقي فكيف تجرؤ على أن تحيا تلك الحياة فتبزّني1 بذخًا وفخفخة يسبّبان لي الخجل، ويجعل البعض يظنّون أنّك ساعٍ إلى أن تصير ملكًا يحلّ محلّي!

- آه لا تقل هذا أيّها الملك لأنّي.......

- كفى كفى! ولا تنبس ببنت شفة! صاح الملك، إنّ خطأك بادٍ للعيان، واضح كالنهار، وإنّي لسائلك ثلاثة أسئلة، فإن لم تجبني عليها سوف آمر بقطع عنقك والاستيلاء على ثروتك!

- نعم أيّها الملك! سوف أبذل جهدي لأجيبك على ما تسأل.

- حسنًا، الآن وأنا متربّع على عرشي والتاج الذهبيّ على رأسي، عليك أن تنبئني:

أولاً: كم سوف يطول عمري؟

ثانيًا: أن تخبرني عن أسرع الطرق لأدور حول الارض.

ثالثًا وأخيرًا: أن تقول لي بماذا أفتكر؟

فقال سيّد الدير:

- أيّها الملك، هذه أسئلة عميقة صعبة، ومن العسير عليّ أن أجاوبك عليها من ساعتي، فألتمس منك مهلة أسبوعين كي أفكّر خلالها مليًّا، وسوف أبذل جهدي لأوافيك بأحسن جواب.

قال الملك:

- لك ما طلبت، ولكن إذ لم تجبني إلى سؤالي أطرتُ رأسك عن بدنك وامتلكتُ كلّ أموالك!

   وانصرف الأسقف حزينًا كاسف البال مضطرب الفؤاد، وتوجّه من توّه إلى جامعة "أوكسفورد" ليستعين بأساتذتها الحكماء، إلّا أنّ هؤلاء هزّوا رؤوسهم عجزًا عن الجواب قائلين إنّهم لم يروا في كتبهم شيئًا يتعلّق بالملك "حنّا"، فخاب أمل الراهب وآب بخفّي حنين، وسار حتّى وصل إلى جامعة "كمبردج" فلم يكن حظّه من معلّميها بأسعد منه في الجامعة الأولى، وقفل عائدًا يجرجر أذيال الخيبة وقد استولى عليه اليأس والأسى والوجل؛ وأتى ليودّع فرسانه وأصدقاءه، إذ لم يبق أمامه سوى أسبوع واحد، على قيد الحياة.

الأجوبة الثلاثة:

   بينما رئيس الدير ممتطٍ جواده، آيب إلى مسكنه الفخم التقى في الطريق راعيًا سائقًا غنمه إلى المروج والحقول، فلمّا شاهده الراعي صاح به قائلًا:

- أهلًا وسهلًا يا معلّمي الفاضل، ما هي أخبارك التي تحملها إلينا عن الملك "حنّا" الكبير؟

جاوبه الرئيس:

- أخبار محزنة، أخبار محزنة!

   ثمّ نزل عن جواده وأوقف الراعي على حقيقة ما جرى له.

فقال هذا الأخير متهلّلًا:

- استبشر خيرًا، استبشر خيرًا، ولا عليك يا سيّدي! ألم يبلغك قطّ أنّ مجنونًا فاقد العقل علّم رجلًا عاقلًا حكيمًا؟ أعتقد بأنّني سوف أنجّيك من ضيقك هذا!

فصرخ رئيس الدير:

- أنت؟ أنت تساعدني؟ كيف؟ كيف؟

أجابه الراعي:

- عفوًا سيّدي، أنت تعلم حقّ العلم أنّ الناس كافّة يقولون إنّنا شبيهان في مظهرنا كنقطتي ماء، وكم من مرّة وقعوا في الخطأ وخمّنونني رئيس الدير، أي حسبوني أنت، لذلك أعرني خدّامك وجوادك وجبّتك، فأذهب إلى لندن مكانك لأرى الملك وأجيبه عنك، وإذا لم أستطع أن أعمل شيئًا، أضحّي بنفسي بدلًا منك!

فقال الراهب الخائف:

- أيّها الراعي الصالح، إنّك كثير اللّطف، شديد الوفاء، سوف أسمح لك بتجربة هذه الحيلة، ولكن إذا قُدّر لك عدم النجاح في الجواب، فلن تموت من أجلي أبدًا، أنا سوف أقضي من أجل نفسي!

   تحضّر الراعي المخلص للانطلاق إلى بلاط الملك، فارتدى ثيابه بعناية كلّيّة وألقى فوق رداء الراعي جبّة معلّمه ووضع على رأسه قلنسوة رئيس الدير، وحمل بيده عكّازه الذهبيّ حتّى لم يعد يدور في خلد أحد أنّ هذا الراعي غير ذلك الرجل الكبير الكريم نفسه. فامتطى حصانه يواكبه الخدم وسار إلى "لندن" حيث بدون ريب، لم يعرفه الملك بل استقبله بالرحب والسعة وقال له:

- حسنًا فعلت بعودتك إليّ ووفائك بوعدك، ولكن إذا أخطأت في الجواب على أسئلتي الثلاثة، حززت عنقك وأطرت رأسك!

فجاوبه الراعي:

- أنا حاضر للجواب يا مولاي.

فقال الملك:

- أصحيح ذلك؟ أصحيح ذلك؟

وضحك في عبّه ثم قال:

- حسنًا، أجب على سؤالي الأوّل: كم من السنين سوف أعيش؟ وعليك أن تخبرني عن اليوم الذي سوف أموت فيه!

فقال الراعي:

- سوف تحيا إلى اليوم الذي تموت فيه، لا يوم أكثر ولا يوم أقلّ، وسوف تقضي نحبك عندما تلفظ نفسك الأخير، لا دقيقة أكثر ولا دقيقة أقلّ.

فضحك الملك وقال:

- أرى أنّك ذكيّ، خفيف الروح، فلندع هذا السؤال، لقد قلت الصواب، والآن جاوبني على السؤال الثاني. ما هي أسرع طريقة لأدور حول الأرض؟

فقال الراعي:

- عليك أن تستيقظ عند بزوغ الشمس وتمتطي جوادك، وتبقى راكبًا فوق سرجه إلى أن تشرق في صباح اليوم التالي، فإذا فعلت ذلك وجدت أنّك درت حول العالم، في أربع وعشرين ساعة!

ضحك الملك ثانية وقال:

- لم أفتكر قطّ أنّ هذه الرحلة يمكن أن تتمّ بمثل هذه السرعة، إنّك لست فقط ذكيًّا خفيف الظلّ، بل إنك لرجلٌ عاقل حكيم؛ دعنا الآن من هذا وجاوبني على سؤالي الأخير: بماذا أفتكر؟

فأجاب الراعي:

- إنّه لسؤال هيّن:

أنت تفتكر بأنّي رئيس دير "كنتربري"، وها أنذا أخبرك الحقيقة، أنا لست سوى راعيه المسكين، أتيت ألتمسُ منك العفو عنه وعنّي وأستغفرك.

فضحك الملك عاليًا وطويلًا وقال:

- ما أبهجك من رجل، إنّك سوف تكون رئيسًا مكان سيّدك في "كنتربري"!

فقال الراعي:

- أيّها الملك السعيد، إنّ هذا لأمر متعذّر، فأنا أجهل القراءة والكتابة.

فقال الملك:

- حسنًا، لك مكافأة على حيلتك اللطيفة الذكيّة هذه بأن تنال في كلّ أسبوع أربع بدرات من الفضّة، طوال حياتك، وعندما تؤوب إلى بيتك، يلزم أن تخبر رئيسك الشيخ الكريم أنّك حصّلت له العفو من "حنّا الملك"!

                           15 ت2 1940

                              ترجمة  يوسف س. نويهض

 

1- بزّ في ميدانه: غلبه.